فصل: مسألة المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لقرب الساعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لقرب الساعة:

في المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لقرب الساعة قال مالك: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثلكم مثل قوم بعثوا طليعة إلى عدوهم فأراد أن يرجع إليهم فأعجله ما رأى منهم فألاح إليهم أتيتم أتيتم».
قال محمد بن رشد: هذا مثل ضربه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقرب الساعة والحض على المبادرة بالأعمال قبل حلول الأجل، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ولما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ناداهم اعملوا لما عند الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا، وقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة النار التي تبعث في أرض اليمن:

في النار التي تبعث في أرض اليمن في آخر الزمن قال مالك: بلغني أنه تبعث نار من أرض اليمن تسوق الناس سوقا إلى أرض المحشر.
قال محمد بن رشد: المحشر هي الشام التي يحشر الناس إليها بعد البعث للحساب، وهذه النار التي تسوق الناس إلى أرض المحشر هي أول شرط من شروط الساعة الكبار التي تكون بين يدي الساعة كالدابة والدخان وياجوج وماجوج والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، يبين هذا قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أول أشراط الساعة بأن تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، ذكر البخاري في الترتيب، وخرج من رواية أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى»، وهذا الحديث يشهد لصحته قول كعب الأحبار الذي يأتي بعد هذا في هذا الرسم من أن الساعة لا تقوم إلا على شعل نار بهذا الوادي، يعني وادي سرواغ بأكناف قديد، نار تضيء منه أعناق الإبل بأيلة، فيحتمل أن تكون هذه النار هي التي تبعث بأرض اليمن فتسوق الناس إلى أرض المحشر فتمر في طريقها على الحجاز على وادي سرواغ بقديد، ويحتمل أن تكون نارا أخرى، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وأما أشراطها المؤذنة بقربها فكثيرة، من ذلك انشقاق القمر في حياة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ على ما روي، قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ومنها رمي الشياطين بالشهاب، ومنها موت الفجاة، والتطاول في البنيان، ومنها يؤتمن الخائن ويخون الأمين، وأن تلد الأمة ربها وربتها، وأشياء كثيرة أتت بها الروايات عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ.
والنبي أيضا من أشراطها إذ هو آخر الأنبياء لا نبي بعده، وقد قال عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وأشار بأصبعيه التي تلي الإبهام والأخرى، يريد أن قيام الساعة متصل بانقراض أمته إذ لا نبي بعده، قال عز وجل: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] على ما مضى فوق هذا، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة التثبت في مسائل الاجتهاد:

فيما يلزم من التثبت في مسائل الاجتهاد قال مالك: كان عمر بن الخطاب إذا شاور أصحابه قال لهم: ارجعوا وتثبتوا فإنه أثبت لكم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن ما يعين من الاجتهاد في الأحكام التي لا نص فيها في الكتاب ولا في السنة ولا فيما اجتمعت عليه الأمة، يفتقر إلى إعمال النظر في رد ما اختلف عليه إلى ما اتفق عليه بالمعنى الجامع بينهما، ووضع الأدلة في ذلك موضعها، وذلك لا يكون إلا بعد روية وتدبر، لا يصح إلا بصرف الهمة إلى ذلك، والانفراد له دون الاشتغال بما سواه، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة ما أمر به عمر من عد الأئمة:

فيما أمر به عمر من عد الأئمة قال: وسمعت مالكا يذكر، قال عمر بن الخطاب: عدوا الأئمة، فعدوا له رهيطا، قال: سبحان الله أمتروك الناس بغير أئمة؟
قال محمد بن رشد: أراد عمر بالأئمة الأئمة في الدين والعلم الذين يفتونهم في ذلك كله، فلما لم يبلغ ما عدوا منهم إلا رهيطا قال: سبحان الله!! أنكر ألا يكون في عهده من الأئمة إلا من عدوه، هذا معنى قوله، والله أعلم، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم». كان الصحابة في زمن عمر ابن الخطاب متوافرين، فيبعد ألا يكون فيهم أئمة يعتمد بهم إلا رهيطا.

.مسألة تعريف التقي:

في التقي قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: التقي ملجم لا يستطيع أن يعمل بكل ما يريد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن من خاف الله عز وجل حجزه خوفه عن هواه، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41]، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة المسجد الذي أسس على التقوى:

في المسجد الذي أسس على التقوى قال مالك: بلغني أن المسجد الذي أسس على التقوى مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قال محمد بن رشد: هذا الذي حكى مالك أنه بلغه، يريد عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، من أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ هو مذهبه، وبه قال، وله احتج في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الصلاة، بأن قال: أين كان يقوم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك. وقال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] فإنما هو مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال عمر بن الخطاب: لولا أني رأيت رسول الله أو سمعته يريد أن يقدم القبلة وقال عند ذلك بيده ما قدمتها، قدمها عمر لموضع المقصورة الآن، فلما كان عثمان بن عفان قدمها إلى موضعها الذي هي به الآن، ثم لم تحول بعد، وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وغيره، «أن رجلا من بني خدرة، ورجلا من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال العوفي: هو مسجدنا بقباء، وقال الخدري: هو مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرجا فأتيا النبي فسألاه عن ذلك فقال: هذا المسجد، هو مسجد رسول الله» وفي ذلك خير كثير، وإلى هذا ذهب ابن عمر.
وخالفه ابن عباس وجماعة من العلماء فذهبوا إلى أنه مسجد قباء مسجد سعد بن ختمة بظاهر ما في كتاب الله عز وجل من قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] إلى قوله: {الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] يريد الأنصار بما روي من «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما نزلت: يا معشر الأنصار إن رسول الله قد أثنى عليكم في الطهور في طهوركم، قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء، وفي بعض الآثار: ونستنجي بالأحجار ثم بالماء»، فقال: هو ذلك فعليكموه، وهذا ليس بدليل قاطع لاحتماله التأويل؛ لأن أولئك الرجال كانوا في مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم من الصحابة.
واستدلوا أيضا ببنيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، روي «عن عائشة أنها قالت: أول من حمل حجر القبلة بمسجد قباء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حمل أبو بكر آخر، ثم حمل عمر آخر، ثم حمل عثمان آخر، فقلت: يا رسول الله أما ترى هؤلاء يتبعونك؟ فقال: أما هم أمراء الخلافة من بعدي» وهذا لا دليل فيه أيضا؛ لأنه بنى مسجده أيضا فلم يختص بناء مسجد قباء دون مسجده، فصح ما ذهب إليه مالك بتأييد الأثر له عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بالنص على أنه مسجده.
واستدلال مالك في رواية أشهب عنه بقول عمر بن الخطاب ظاهر، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض أسه وتبديل قبلته إلا بما سمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك وأراه قد أراد أن يفعله.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما بنى رسول الله مسجد قباء خرج رجال من الأنصار وهم اثنا عشر رجلا من المنافقين فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله لأحدهم: ويلك ما أردت إلى ما أرى؟ فقال: يا رسول الله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب، فصدقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وروي «أن رسول الله أقبل من تبوك حتى نزل بذي أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من النهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاقة، وإنا لنحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل، أو كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو قد قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد بما أنزل الله فيه من قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107]» يعني ليلا يصلون في مسجد قباء جميعا {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107] يعني رجلا كان منهم يقال له أبو عامر الراهب، كان محاربا لرسول الله، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محاربا لله ورسوله، فقالوا: إذا رجع أبو عامر من عند هرقل أو من عند قيصر صلى فيه ثم يظهر على محمد: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] أي لا تقم يا محمد في المسجد الذي بنى هؤلاء المنافقون ضرارا وتفريقا بين المؤمنين، ثم أقسم عز وجل فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة: 108] إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] وكل القراء قرأ أسس بنيانه بالنصب في هذين الموضعين، وهذا بين في المعنى، إلا نافعا وابن عامر فإنهما قرآ أسس بنيانه بالرفع على ما لم يسم فاعله.

.مسألة ما جاء في الفردوس:

قال مالك: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «الجنة مائة درجة، أعلاها وأوسطها الفردوس، منها تتفجر أنهار الجنة، وعليها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس».
قال محمد بن رشد: في هذا أن الاختيار للداعي إذا دعا الله عز وجل يسأله أرفع المنازل؛ لأن الله جواد كريم يستجيب للداعي إذا دعاه، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة تسمية المولود يوم سابعه:

في تسمية المولود يوم سابعه قال مالك: يسمى الصبي في اليوم السابع.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لمالك في رسم يسلف المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم من كتاب العقيقة، وإنما اختار مالك أن يسمى المولود يوم السابع لما جاء في الحديث من قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه ويسمى»، وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «سموا المولود يوم سابعه»، والأمر في ذلك واسع، روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين ولد له ابنه إبراهيم: «ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم» «وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتي بعبد الله ابن أبي طلحة صبيحة الليلة التي ولد له فيها، فحنكه بثمر عجوة ودعا له وسماه عبد الله،» في حديث طويل.
ويحتمل أن يكون معنى ما في الحديث من تسمية المولود يوم سابعه ألا تؤخر تسميته عن ذلك؛ لأنه إذا سماه يوم السابع فهو مسمى يوم السابع وقبله، فيتفق الآثار على هذا، وقال ابن حبيب على اختيار مالك: ولا بأس أن يتخير له الأسماء قبل السابع، ولا يقع عليه الاسم إلا يوم السابع.
فإن مات قبل يوم السابع سمي بعد موته، ولم تترك تسميته؛ لأنه ولد ترجى شفاعته، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن السقط ليظل حبطيا على باب الجنة يقال له: ادخل الجنة، فيقول لا أدخل حتى يدخل أبواي» وذكر لمالك الحديث الذي ذكر أن السقط يقول يوم القيامة لأبيه: تركتني بلا اسم فلم يعرفه، وبالله التوفيق.

.مسألة ما أعطى عمر لامرأته بالشام حين قدمها:

فيما أعطى عمر لامرأته بالشام حين قدمها قال مالك: لما قدم عمر بن الخطاب الشام أعطى أبا عبيدة مائتي دينار يجعلها في حاجته، ثم دفع إلى معاذ بن جبل مثلها ففرقها، فقالت له امرأته: غفر الله لك، ما لنا فيها حق؟ وكانت قد بقيت أربعة دنانير فطرحها إليها.
قال محمد بن رشد: في هذا ما كان عليه أبو عبيدة ومعاذ بن جبل من الزهد في الدنيا والرغبة فيما رغب الله فيه في بذل المال في طاعته وأثنى على فاعله بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، وبالله التوفيق.

.مسألة التحذير من الكذب:

في التحذير من الكذب قال مالك: يقال عن ابن مسعود كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من يحدث بكل ما سمع يحدث بالحق والباطل، ولكن ليس ذلك بحقيقة الكذب المحرم إذ لم يختلقه هو، فإن كان كذبا فإثمه على دس من اختلقه، وقد مضى الكلام في الكذب وتقسيمه في أول رسم حلف قبل هذا.

.مسألة الصلاة بغير رداء:

في كراهية الصلاة بغير رداء وقال مالك: رأى ابن عمر نافعا يصلي بغير رداء، فقال له: ألا أخذت رداءك، فإن الله أحق من تجمل له، قال: وجاء عنه من وجه آخر أنه رآه يصلي في خلوته بثوب واحد، فقال له: ألم أكسك يوم الأول ثوبين؟. قال: بلى، قال: أفكنت تخرج إلى السوق بثوب واحد؟ قال: لا، قال: فالله أحق أن يتجمل له.
قال محمد بن رشد: حض ابن عمر نافعا مولاه على أن يصلي بردائه وفي ثوبين إن كان في خلوته هو مثل ما في المدونة لمالك من قوله:
وأحب إلي أن يجعل على عاتقه عمامة إن كان مسافرا أو صلى في داره، وكره في المدونة للإمام أن يجعل على عاتقه عمامة في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، ونزع بقوله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
وما كره تركه ففعله مستحب، والاستحباب في هذا على مراتب أربعة، فأعلاها في الاستحباب وأكرهها فيه صلاة الأئمة في مساجد الجماعات ومساجد القبائل بالأردية، وما كان في معناها من الغفائر والبرانس، ويليها في الاستحباب صلاة المنفرد في الجماعات ومساجد القبائل بالرداء وما كان في معناه، ويلي ذلك في الاستحباب صلاة الإمام في داره وفي فنائه بالرداء وما كان في معناه، ويلي ذلك صلاة المنفرد بداره بالرداء أو ما يقوم مقامها وهو أدناها مرتبة في الاستحباب، فإذا صلى الإمام بالناس في مساجد الجماعات بخس نفسه حظا وافرا من الأجر، والله أعلم بقدره، وإذا صلى وحده في مساجد الجماعات بغير رداء فقد بخس نفسه من الحظ والأجر دون ذلك، وإذا أم الرجل الجماعة في داره بغير رداء فقد بخس نفسه من الحظ والأجر دون ذلك، وإذا صلى الرجل في داره بغير رداء فلا بأس بذلك لأن الذي بخس نفسه في صلاته وحده بغير رداء يسير.

.مسألة عدد من قتل يوم الحرة:

في عدد من قتل يوم الحرة قال وسمعت مالكا يقول: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل كلهم قد جمعوا القرآن، قال ابن القاسم شككت أنه كان فيهم أربعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
قال محمد بن رشد: الحرة كان في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين من الهجرة، وذلك أن أهل المدينة خلعوا طاعة يزيد بن معاوية وأخرجوا المغيرة بالمدينة وكان القائم بذلك عبد الله بن حنظلة، فكتب بذلك مروان بن الحكم إلى يزيد فجيش إليهم الجيوش، فكان من أمرهم ما قد مضى في رسم حلف فيما ذكر مالك فيه عن سعيد بن المسيب من أنه قال: خلا مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لم يجمع فيه ثلاثة أيام يوم قتل عثمان ليوم الحرة ويوم آخر.

.مسألة ما حكي عن كعب الأحبار من أنه ستشتعل بوادي سوارغ نار:

فيما حكي عن كعب الأحبار من أنه ستشتعل بوادي سوارغ نار قال مالك: قال كعب الأحبار لأبي واقد الليثي أبو واقد رجلا أعرابيا عارفا بالبلد وهو بأكناف قديد أي واد هذا؟ قال: هذا سوارغ، قال كعب: والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من هذا الوادي تضيء منه أعناق الإبل.
قال محمد بن رشد: مثل هذا من الأخبار بما يكون بالمغيبات لا يكون إلا عن توقيف، وشهد له ما خرجه البخاري من رواية أبي هريرة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» فإن صح هذا وكان على الحقيقة فهو من أشراط الساعة التي تكون بين يديها، مثل ما جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في النار التي تبعث من اليمن فتسوق الناس إلى المحشر على ما حكى مالك فوق هذا أنه بلغه، ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على غير حقيقة واستعارة من فتنة تكون بالوادي المذكور واختلاف واختلاط يبلغ ضرره إلى أن يكون أيلة، فإن المجاز جائز استعماله، وقد جاء ذلك كثيرا في القرآن والسنن والأخبار، من ذلك قول الله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] والاشتعال لا يكون حقيقة إلا في النار، وقوله عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] والذل لا جناح له حقيقة.

.مسألة إهلال عيسى ابن مريم بالحج:

في إهلال عيسى ابن مريم بالحج قال مالك: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليهلن ابن مريم بفج الروحا حاجا ومعتمرا، أو ليثنينهما، فقيل ما معنى ذلك؟ أيقرن أم يحج ويعتمر قال: بل يحج ويعتمر».
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب وأن الله رفعه إليه، وأخبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إخبارا أوقع العلم به أنه سينزل في آخر الزمن حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وفي بعض: فيهلك الله في أيامه الملل كلها، فلا يبقى إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد الإبل، والنمور مع البقر، والذياب مع الغنم، والغلمان بالحيات، فلا يضر بعضهم بعضا، فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضا، ويشهد بصحة ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ في هذه الحكاية، وقد وقعت في رسم الحج من سماع أشهب من كتاب الحج.
وقال مالك فيها متصلا بقوله: أو ليثنينهما، أراد في رأيي يجمعنهما، والجمع. بين الحج والعمرة هو القران بعينه، وذلك أظهر في تأويل ليثنينهما من قوله في هذه الرواية ليس معنى ذلك القران، وإنما معناه أن يحج ويعتمر، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة المقسطون على منابر يوم القيامة على يمين الرحمن:

ومن كتاب أوله سئل عن تأخير صلاة العشاء في الحرس:
حكاية عن مالك أن كعب الأحبار تكلم بكلام- خفي فقال له عمر: ما لك تكلمت به؟ قال: لا شي، قال: لتخبرني، قال، قلت: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، فقال عمر: إلا من حاسب نفسه، قال كعب: والذي نفسي بيده وأنه تعالى آثرها في كتاب الله.
قال محمد بن رشد: فهم عمر- والله أعلم- أن الكلام الخفي الذي تكلم به قاله بسببه، فلذلك سأله عنه وعزم عليه أن يخبره به.
وقوله: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، معناه إن لم يعدل فيما جعل الله له عليه السلطان وهو معنى قول عمر ابن الخطاب: إلا من حاسب نفسه؛ لأن من عدل في سلطانه فهو في أرفع المنازل عند الله، روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «المقسطون على منابر يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين». وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله» فبدأ بالإمام العادل، ومثل هذا كثير، وفي موافقة بقوله إلا من حاسب نفسه، كتاب الله أي التورية على ما أخبر به كعب وحلف عليه، بيان قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيه «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه»، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه، وقد نزل القرآن بموافقته في تحريم الخمر وفي أسرى بدر وفي الحجاب وفي مقام إبراهيم على ما جاء في ذلك كله.

.مسألة ما قل وكفى خير مما كثر وألهى:

في أن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وسمعت مالكا يقول كان داود النبي يقول: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
قال محمد بن رشد: في قول داود النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، دليل على أنه ليس بخير مما كثر إذا لم يله، وفي هذا تفضيل الغنى على الكفاف، وهو أيضا أفضل من الفقر على ما يختاره مما قيل في ذلك في رسم نذر منه، وبيان هذا بالحجة فيه، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

في تواضع عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وسمعت مالكا يقول: قيل لعمر: تركب دابة بالشام حين دخلها فقال: لا، إنما أعزنا الله بالإسلام.
قال محمد بن رشد: قال مالك في سماع أشهب من كتاب الدعوى والصلح وتلقي عمر يومئذ ببرذون نحاري فركبه حتى نزل عنه وسبه فقيل له ما لك؟ فقال ركبتموني على شيطان حتى أنكرت نفسي، ولما دخل الشام تلقاه عجمها ركب خلف أسلم وقلب فرويه فجعلوا كلما لقوا أسلم يقولون أين أمير المؤمنين؟ فيقول أمامكم أمامكم حتى أكثروا، فقال له عمر: أكثرت عليهم، أخبرهم الآن، فسألوه فقال: هو هذا، فوقفوا كالمتعجبين من حاله، فقال عمر: لا يرون علينا ثياب قوم غضب الله عليهم، فنحن تزدري بنا أعينهم، ثم لم يزل قابضا بين عينيه حتى لقيه أبو عبيدة بن الجراح فقال: أنت أخي حقا لم تغيرك الدنيا، ولقيه على بعير خطامه حبل شعر أسود، وقد قال أنس بن مالك: رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد وقع بين كتفيه برقاع ثلاث لبس بعضها فوق بعض، وهذا كله نهاية في التواضع من عمر بن الخطاب، ومن تواضع لله رفعه، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة الركوع بعد أذان المغرب:

في الركوع بعد أذان المغرب وسمعت مالكا يقول: أدركت بعض الشيوخ إذا سمع مؤذن المغرب قام فركع ركعتين قبل صلاة المغرب.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم: قال مالك: لا يعجبني هذا العمل لاختلاف بين أهل العلم في أن الصلاة قد حلت عند غروب الشمس لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى يبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب» ولما جاء من أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلا أن صلاة المغرب قد وجبت بغروب الشمس، فلا ينبغي لأحد أن يصلي نافلة قبل صلاة المغرب؛ لأن تعجيل صلاة المغرب عند أول وقتها أفضل عند من رأى وقت الاختيار لها يتسع إلى مغرب الشفق، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، وقد قيل إنه ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد فلا يجوز أن تؤخر عنه إلا لقدر.
واختلف فيمن كان في المسجد منتظرا للصلاة هل له أن يتنفل بين الأذان والإقامة، فقيل ذلك له على ما حكاه مالك في هذه الرواية عن بعض من أدرك من الشيوخ، ومن حجتهم ما روى المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال: كان إذا نودي بالمغرب قام بباب أصحاب رسول الله يبتدرون السواري يصلون الركعتين، ومن حجتهم أيضا التعلق بظاهر ما روي عن النبي عليه السلام من قوله: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة. لمن شاء» على ما تأولوه من أنه أراد بذلك ما بين كل أذان وإقامة؛ لأن الإقامة أذان.
وقيل: ليس ذلك له، وهو مذهب مالك على ما روى ابن القاسم عنه في هذه الرواية من قوله: لا يعجبني هذا العمل.
وما ذهب إليه مالك من كراهة ذلك أظهر لثلاثة أوجه.
أحدها: حماية للذرائع؛ لأن ذلك لو أبيح في الناس فكان ذلك سببا لتأخير المغرب عن وقتها المختار، وعن أول وقتها المختار على مذهب من رأى لها وقتين في الاختيار.
والثاني: ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «عند كل أذان ركعتان ما خلا صلاة المغرب».
والثالث: استمرار العمل من عامة العلماء على ترك الركوع في هذا الوقت، وأن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لم يفعله ولا أبو بكر ولا عمر، إذ لو فعلوا ذلك لنقل عنهم، وقال إبراهيم النخعي من أجل هذا المعنى: إن الركعتين قبل المغرب بدعة، ويتخرج في المسألة قول ثالث بين أن يكون في المسجد جالسا من قبل غروب الشمس، وبين أن يدخل فيه بعد غروبها، فيجب إذا دخل فيه بعد غروبها منتظرا للصلاة ألا يجلس حتى يركع لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس»، وبالله تعالى التوفيق.